[center][size=18]حينما استيقظت ..
- لقد تأخرت ...
قلتها. وأنا أصر أسناني غيظا ، من المنبه .. الذي يخذلني في كل مرة ..
نفضت الشرشف عن جسمي ، وقفزت من فراشي . الربع ساعة التي أمضيها عادة في الاستعداد
أختصرتها إلى خمس دقائق ركبت السيارة وأنطلقت ..
كل شئ إختصرته .. إلا السرعة ، فإنها قد تضاعفت . يجب أن أصل
ولو أدرك نصف الاجتماع . إنها المرة الأولى التي أتأخر بها عن إجتماع ،،
كان ذهني مشغولا بحساب عدد الإشارات المتبقية ، حتى أصل إلى الطريق السريع
عندما دوى إرتطام ، عنيف في الجانب الأيمن من مؤخرة سيارتي ، وعكس اتجاهها تمام
حينما استعدت توازني ، بعد مفاجأة الصدمة ، كانت أشلاء سيارتي متناثرة أمامي
ولمحت من بعد ، السيارة التي صدمتني تلوذ بالفرار .. قلت في نفسي :
سيارة فخمة .. لماذا يهرب صاحبها ، و سفايف واحد من سفايف سيارته تعادل قيمة سيارتي ..؟
لم أحتج لتفكير طويل ، لكي أقرر أن أطارده وأنسى الاجتماع
الصدمة قوية ، والتلفيات في سيارتـي كبيرة ، وأنا لا أستطيع أن أتحمل خسائر بهذا الحجم
الاجتماع يمكن أن يعوض . هكذا حدثت نفسي ، وأنا أنطلق وراءه بنصف سيارة تقريبا .
كان مرتبكا ، لذلك لحقته بسرعة ، وبدأت مطاردة غير متكافئة بين سيارته الفارهة ،
والـ نصف المتبقي من سيارتي . شعر أني مدركة .. لا محالة ..
فأنا صاحب حق ، والوضع الذي آلت إليه سيارتي ، لم يبق لي شيئا أخسره
عند أحد المنعطفات خفض من سرعته كثيرا . لاحظت ذلك
من نور الكوابح الذي ظل مضاء أطول من كل مرة . لقد استسلم .. قلت لنفسي
وبدأت آخذ وضع الاستعداد للـ
فجأة .. رأيت باب الراكب الذي بجانبه يفتح ، ولاحظت أنه يميل
ويدفع شيئا إلى الخارج .. ثم أعقب ذلك صريخ عال لعجلات سيارته يصم الآذان
وهو ينطلق بسرعة عالية ، تاركا المكان ممتلئا برائحة إحتراق الإطارات ، إثر احتكاكها الهائل بالأرض .
حينما فتح الباب .. وقذف بذلك الشيء ، كان أول ما سقط حقيبة .. ثم شيئا ملتفا بقماش أسود
كإنه ،،،
- يا إلهي.. امرأة .. بل فتاة ..
هكذا صرخت ، وأنا أتقدم ببطء تجاه ذلك الشيء ، الذي قذف من السيارة .
نهضت .. وأخذت تنفض الغبار الذي علق بعباءتها ، وتتراجع ملتصقة بالجدار
حينما اقتربت منها ، أخذت تبكي ، وهي تلملم أطراف مريولها الذي تمزق ، إثر سقوطها من السيارة .
- طالبه..
قلتها ، وأنا أنظر إلى مريولها ، وأغراضها المدرسية التي تناثرت من حقيبتها
وقفت قريبا منها ، وصرت أسمع بكاءها ، وحشرجة صوتها وهي تقول :
-أرجوك .. أرجوك .. أستر علي ، الله يخليك .. لا تفضحني ..
لم أدر ماذا أصنع . شعرت بإرتباك وحيرة شديدة ..
وتعطلت قدرتي على التفكير .
الموقف يبعث على الريبة : أنا .. وفتاة .. على ناصية الشارع . ثوبها ممزق
وأغراضها مبعثرة على الأرض .. قلت لها .. بعد تردد ، دون أن أحدد ما هي خطوتي التالية :
- اركبي .. سأوصلك إلى بيت أهلك ..
صاحت ، بهلع :
- لا .. لا أريد بيت أهلي .. ستذبحني أمي .. أرجوك ..
كان يجب أن أتصرف بسرعة ، خاصة وأن المشهد أصبح ملفتا للنظر .
السيارات المارة ، صار أصحابها يحدقون بنا ، وكاد فضول بعضهم يدفعه للتوقف .
- اركبي الآن.. ونتفاهم فيما بعد .. في المقعد الخلفي لو سمحت ..
شرعت أجمع أغراضها ، التي تناثرت من حقيبتها المدرسية .. ثم عدت أدراجي إلى السيارة ..
لم تكن قد ركبت ..
-لماذا لا تركبين !!
-الباب ما ينفتح
- تعالي إلى هذا الباب
ألقيت نظرة إلى داخل السيارة ، كان حطام الزجاج يملأ المقاعد الخلفية..
- أووف .. لا باس .. اركبي في المقعد الأمامي ..
ركبت ، وحينما استوت على المقعد ، أخذت تجمع عباءتها ، لتغطي بها مريولها الممزق
الذي أنشق عن ساقها إلى أعلى ركبتها بقليل . لمحت كفها .. بيضاء صغيرة
خمنت أنها لا تزيد عن الخامسة عشرة . - تدرسين..؟
- نعم ..
- في أي صف؟
- الثالث متوسط
كان ظني في محله .. لون مريولها يشبه لون مريول شقيقتي ، التي تدرس في نفس المرحلة .
- شنو إسمك..؟
- مريم
كنت أسير بالسيارة على غير هدى ، وطاف في رأسي كثير من الأفكار:
أسلمها للمخفر . رجعها إلى بيت أهلها .. أعيدها للمدرسة .. أنا قطعا لا أستطيع أن أبقيها معي
سألتها :
- مريم .. منو هذا اللي كنتي معاه ..؟
لم ترد على سؤالي .. ولا أدري تحديدا لم سألتها . كنت أريد أن اختلق حوارا
لأصنع جوا من الثقة ، يساعدني في فهم ملابسات أمرها .. ويمهد الطريق إلى قلبها ..
القلـوب المغلقة مثل دهاليز الاستخبارات ..
مرتع خصب للخوف .. و التوجس .. والشك .. والريبه ..
الساعة الآن تجاوزت التاسعة والنصف ..
الوقت يمضي ، وأمامي أعمال كثيرة يجب أن أؤديها ..
حين فشلت محاولتي لاستدراجها للكلام ، رأيت أن احسم الموضوع مباشرة .. قلت لها :
-مريم يجب أن تختاري بين أمرين .. أسلمك للمخفر ، أو أوصلك لبيتكم ..
بقاؤك معي غير ممكن ، كما أن أهلك لابد أن يعرفوا عن سلوكك ..
أنفجرت باكية ، وبطريقة تنم عن سلوك طفولي حقيقي ، رفعت غطاء وجها
وهي تتوسل إلي بعينين دامعتين ، أن لا أفعل ...
- أرجوك ... إذبحني .. لكن لا تسلمني للمخفر .. لا توديني لبيتنا
والله هذي أول مرة أطلع فيها مع رجال .. ضحكت علي لطيفه
أشفقت على ذلك الوجه الطفولي البريء . قلت لها ، وأنا أسحب يدي من يديها
وهي تحاول أن تجرها لتقبلها ، رجاء أن لا أسلمها للمخفر ، أو لأهلها :
- طيب ، طيب خلاص لن أسلمك لأحد لكن ما العمل ؟
-إذا جاء وقت طلوع الطالبات .. أنزلني عند المدرسة ..
- متى
- الساعة الواحدة بعد صلاة الظهر
- بقي أكثر من ثلاث ساعات وأنا مشغول
أطرقت لحظات ، تعاقب خلالها على وجهها انفعالات من كل نوع .. الرهبة .. القلق .. الخوف من المجهول .
ثم نظرت إلي بعينين فارغتين تماما من أي بريق .. وقالت :
- نزلني عند المدرسة ..
- وبعدين؟؟
- أنتظر وإذا طلعوا الطالبات .. أروح لبيت أهلي ..
شعرت في أعماقي بحزن شديد لهذه البراءة الساذجة
هي بالتأكيد ليست من ذوات السلوك المنحرف المتمرسات .. ولا تعي خطورة الذي تقوم به
ولا عاقبة تصرفاتها ..
- أنت صاحية تقعدين في الشارع ثلاث ساعات ؟ ؟
لم ترد بشيء ، لكن الفضول دفعني لأن أسألها عن مكان مدرستها
لأستدل من ذلك على اسم الحي الذي يسكنه أهلها
- أين مدرستك يا مريم؟
-في منطقة الصليبيه ،،
في الصليبية !!
شعرت بمثل المسمار يخترق قلبي .. هذه أفقر مناطق الكويت
تداعت إلى ذهني الصور والمعلومات التي لدي عن الصليبية
وحاولت أن أفهم العلاقة بين تلك السيارة الفخمة
وتلك المنطقة حيث تقيم مريم لا يمكن أن يكون صاحب تلك السيارة يقيم هناك ،،
لسبب بسيط هو أن ثمنها يعادل قيمة خمسة من جحور تلك المنطقة التي يطلق عليها مجازا .. منازل ، كما أن سيارته ستجد صعوبة في اختراق شوارع أحيائها ، الذي لا يتسع أحدها ، إلا لمرور سيارة واحدة صغيرة .. ولأن سكان ذلك الحي كذلك .. غالبا ما يتسببون بإغلاق الشوارع ، بإيقاف سياراتهم بطريقة خاطئة ، لا تتحملها هذه الطرق ، الشديدة الضيق أصلا .
ماذا يكون ...؟
إنه أحدهم
أنه فجور المترفين ، إذ يتربص بعوز المحرومين .. وحرمـان البؤساء
ليطلق غرائزه .. تفتك بإنسانية البسطاء .. وتفترس الشرف ، والكرامة
أعرف هذه المنطقة
جئتها في أحد المساءات ، قبل عام تقريبا
بصحبة صديق ملتزم ، من الناشطين في الأعمال الخيرية التطوعية .. لتوزيع صدقات عينيه ومالية .
لا أدري كيف أقنعنـي عبد الكريم أن آتي معه . فأنا رغم تعاطفي مع حالات البؤس الإنساني
إلا أنني سلبي جدا في التعاطي معها . أحتاج إلى وقت طويل ، لأتفاعـل مع الحدث ، أو الحالة
وأحتاج لوقت مثله ، لأترجم التفاعل إلى فعل ..
متــابع[/size]</B>[/center]